مأساة حي الشيخ جراح ... القصة الكاملة ( عندما تهان الكرامة)

 

دخلت الشيخ جراح وأنا عمري أربع سنوات، كنا لاجئين من حيفا، ليس لدينا طعام وشراب وعمل، ووضعنّا الاقتصادي سيء؛ فكان الشيخ جراح جنتّي وملجئي بعد كل ما حصل... فإخلائي لمنزلي وتهجيري القسري يعني تجريدي من ذكرياتي"

18 فرداً من عائلة حماد من ضمنهم 8 أطفال مهددون بالتهجير من منزلهم في حي الشيخ جراح في شمال مدينة القدس، في حال تم الاستيلاء على منزل العائلة الكبير. بيأسٍ شديد وواضح في نبرات عارف حماد (70 عامًا) يقول لـ”درج”:” الشيخ جراح تعني لي عمري كله، لا أستطيع الكلام عن الموضوع، الظلم الذي أشعر به يمنعني من الكلام؛ لكننّا سنبقى صامدين في هذا البيت حتى آخر نفس”.

يشير حماد إلى أن ما يحصل الآن في الشيخ جراح هو نفسه ما حدث خلال نكبة فلسطين عام 1948 يقول:”” تهجرت عائلتي في النكبة من حيفا، وولدت أنا في عام 1951، وبحسب ما كان يرويه جدي ووالدي عن أحداث النكبة، فهي نفسها ما يحصل معنّا الآن وكأن الزمن يكرر نفسه، وهجرتهم ترتسم أمام عيني. أتخيل المنفى، ومغادرة البيوت، والأرض، فتنفيذ هذه القرارات الجائرة ستجعلنّا مشردين من جديد، وسنصبح مهاجرين ولاجئين جدد”. يؤكد حماد أن الهدم أهون عليه من إخلاء البيت، ففي النهاية تبقى قطعة الأرض ونستطيع أن نبني عليها من جديد.

يواجه أهالي حيّ الشيخ جرّاح شمال البلدة القديمة للقدس منذ أكثر من 40 عاماً مُخطّطاً إسرائيليّاً لتهجيرهم من بيوتهم وبناء مستوطنة فوق أراضيهم. بدأت قصة هذا الحي عام 1956، عندما اتفقت الحكومة الأردنية مع الأونروا على إسكان 28 عائلة فلسطينية من لاجئي النكبة، فوق أرضٍ تسمى “كرم الجاعوني” في الشيخ جراح، ووفق الاتفاقية، وبعد 3 سنوات من الإقامة في بيوتهم الجديدة، تُسجّل ملكية البيوت والأرض بأسماء العائلات في الطابو الأردنيّ، لكن ذلك لم يحصل أبداً!


بداية المشكلة

 بعد الاحتلال الإسرائيلي لشرقي القدس عام 1967، اقدمت جمعيات استيطانية، لجنة من طائفة السفارديم ولجنة من الكنيست (لجنة اليهود الأشكناز) على احتلال منزل عائلة الشنطيب التي كانت في زيارة للكويت خلال الحرب، وقامت نفس الجمعيات بالاستيلاء على مغارة في الحي بدعوى انها مغارة “شمعون الصديق”، باعتبارها مكاناً مقدساً، وتم تحويل منزل الشنطي الى مكتب لهم. ثم قدمت الجمعيات الإستيطانية طلبات للمحاكم الإسرائيلية لإخلاء بقية الأهالي بيوتهم بادعاء ملكيتها لقطعة الأرض التي يسكنون فوقها (حوالي 18 دونماً)، ومنذ ذلك العام توالت جلسات المحاكم الإسرائيلية، والتي ظهر فيها بشكل واضح التواطؤ مع الجمعيات الاستيطانيّة، إذ رفض القضاة النظر في طلبات السّكان الفلسطينيّين لإثبات الملكيّة.


في العام 2008، هُجّرت عائلة أم كامل الكرد من منزلها، وفي العام 2009، هُجّرت عائلتا الغاوي وحنون، وفقدت عائلة نبيل الكرد نصف منزلها. واليوم تستوطن في المنازل عائلات مستوطنين. وفي مطلع عام 2021، أصدرت محكمة اسرائيلية قراراً جديداً يُمهل 4 عائلات من الحيّ حتى آيار/ مايو القادم لإخلاء منازلهم (كرد، قاسم، جاعوني، سكافي)، و3 عائلات أخرى حتى آب/أغسطس القادم (حماد، ديجاني، داودي). حسب تقرير صدر من الائتلاف الأهلي لحقوق الإنسان في القدس في 31 يناير/ كانون الثاني 2021 تم تصنيف عائلات الشيخ جراح وعدد الأفراد المهددين بإخلاء بيوتهم:

الشيخ جراح جنتي وملجئي

تنهيدة ألم طويلة خرجت من صدر السبعيني المهدد بإخلاء منزله قبل مايو/ آيار 2021 نبيل الكرد، عندما تَحدَّث عن حياته وطفولته في حيّ الشيخ جراح فيقول: “دخلت الشيخ جراح وأنا عمري أربع سنوات، كنا لاجئين من حيفا، ليس لدينا طعام وشراب وعمل، ووضعنّا الاقتصادي سيء؛ فكان الشيخ جراح جنتّي وملجئي بعد كل ما حصل، تربيت وكبرت فيه وتعلمت في مدارسه وصليت في مساجده، وتزوجت من بناته. كل ذرة تراب وشجرة وحجر في هذا الحيّ تعني لي الكثير، هذا وطني الصغير، فإخلائي لمنزلي وتهجيري القسري يعني تجريدي من ذكرياتي وتاريخي في هذا الحيّ”.

يعتبر الكرد أن ما يحصل معه الآن في الشيخ جراح هو “تهجير للمرة الثانية”؛ لأن المرة الأولى كانت عندما  تم منعه هو وعائلته من بيته الذي بناه في الحيّ واستولى المستوطنون على نصفه في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2009، وتغريمه مبلغ 97 ألف شيكل (حوالي 30 ألف دولار)، وإعطائه أوامر بهدم البيت وإدخال المستوطنين للعيش فيه. يقول الكرد:” الأرض التي بنيت عليها البيت، كلها ملكي؛ وأعيش حاليًا مع عائلتي المكونة من 8 أفراد في مساحة حوالي 75 متراً، بينما استولى على الشقة التي بنيتها للتوسع مستوطن جاء من أميركا قبل 13 عاما، بحجة أن البيت الذي أسكن فيه حاليًا والذي منحني اياه اتفاق الحكومة الأردنية والأونروا، كانت والدته هي التي قامت ببنائه”.

عام 2016، أجرى مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية عملية مسح أظهرت أن 818 فلسطينيًا معرضون لخطر التهجير بسبب قضايا الإخلاء المرفوعة ضدهم في القدس الشرقية. وكشف مسح مُتابع في عام 2020 أن ما لا يقل عن 218 أسرة فلسطينية لديها قضايا إخلاء مرفوعة ضدها، معظمها من قبل منظمات المستوطنين، مما يعرض 970 شخصًا، من بينهم 424 طفلًا، لخطر التهجير. تم تحديد غالبية الحالات الجديدة في منطقة بطن الهوى بسلوان، والتي تعتبر المجتمع الذي يضم أكبر عدد من الأشخاص المعرضين لخطر النزوح، بسبب حالات الإخلاء المستمرة. بين عامي 2017 و 2020، طردت قرابة 15 أسرة، تضم 62 فلسطينيًا، من منازلها في البلدة القديمة وسلوان والشيخ جراح في القدس الشرقية

الشيخ جراح قضية سياسية وليست قضية محاكم

يقطن 32 فردًا من أسرة الصبّاغ، بينهم ستة أطفال، في منزل العائلة، بينما يلحق الضرر بـ19 فردًا آخر وخمس أُسر من العائلة، بسبب القضية التي رُفعت عليهم في محكمة الصلح منذ عام 2010. العائلة قدمت طلباً للمحكمة المركزية للبحث في ملكية الأرض عام 2012، والتي بدورها رفضت الطلب لازدياد لتأخرهم 15 عاماً في رفع القضية، ثم توجهوا للمحكمة العليا والتي كان ردها “لا يحق لكم المطالبة بالملكية”. يقول محمد الصباغ (70 عامًا):” استطاع المحامي أن يُحول القضية من المحكمة العليا إلى محكمة الصلح عندما استلمنّا قرار الإخلاء في 3 يناير/ كانون الثاني 2019، وتم تجميد القرار إلى حين النظر في قضيتنّا مرة أخرى في محكمة الصلح؛ ولكن للأسف كان ردها هي الأخرى عدم أحقيتنّا في المطالبة بالملكية، فقمنّا باستئناف القرار في المحكمة المركزية، ووافقت على البحث في القضية مرة أخرى؛ لكن بعد دفع مبلغ 35 ألف شيكل (10 آلاف دولار)، وما زلنّا ننتظر لغاية الآن قرارها”.

وفي العام 1967، وبعد احتلال إسرائيل القدس الشرقية وضمّها إلى إقليمها في مرحلة لاحقة، سنّت قانون أنظمة القضاء والإدارة في العام 1970، والذي يجوز بموجبه للإسرائيليين رفع الدعاوى للمطالبة بالأراضي والممتلكات التي يُدِّعى أن يهودًا كانوا يملكونها في القدس الشرقية قبل إقامة دولة إسرائيل في العام 1948. وفي المقابل، يُحرم اللاجئون الفلسطينيون من حقهم في استرداد أراضيهم وممتلكاتهم فيما بات يُعرف اليوم بإسرائيل.

في الوقت الذي وافقت المحكمة المركزية على طلب الإخلاء للعائلات السابقة ما زال الصباغ ينتظر قرار المركزية ويقول: “نحن في صراع مع القضاء الإسرائيلي منذ عام 1972، وقضيتنّا قضية سياسية وليست قضية محاكم”.

ملكية غير شرعية

ووفقًا للقانون الصادر في العام 1970، سجّلت منظمتان إسرائيليتان الأرض في منطقة كرم الجاعوني باسميْهما، بناءً على صكوك الملكية التي تعود إلى العهد العثماني، وذلك على الرغم من طعن الأسر الفلسطينية في صحة هذه الصكوك. ثم باعت هاتان المنظمتان حقوقهما في تلك الأرض لشركة “نحلات شمعون الدولية”، وهي شركة خاصة مسجّلة في الولايات المتحدة. وقد رفعت هذه الشركة العديد من الدعاوى القضائية على مدى السنوات الماضية لإخلاء الأسر الفلسطينية من حي الشيخ جراح.

وبسبب تبرير الإسرائيليين ملكيتهم لأرض الشيخ جراح من عام 1850 منذ أيام الحكم العثماني، عن طريق وثيقة تم تزويرها في المحاكم؛ توجه أهالي الحي إلى تركيا ليثبتوا عدم صحة هذا الأمر، فلم يجدوا أي ورقة أو وثيقة تؤكد هذا الأمر، فمنذ عام 2009  يطالب عبد الفتاح سكافي (70 عامًا) في جلسات المحكمة المتعلقة بخصوص قضيته لإخلاء بيته، أن يحضر مسجل الأراضي لكن دون جدوى أو تغيير جذري في مجرى القضية.

بقلم ليندا ماهر ( صحافية فلسطينية)



تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -