خائف وأريد العودة إلى وطني .. بقلم الدكتور عاطف معتمد


 خائف وأريد العودة إلى وطني !

هذا عنوان الفيديو الذي أذاعته أمس "بي بي سي" لمواطن من تايلاند يعمل في مزرعة إسرائيلية على حدود غزة. الفيديو يتناول حالة العامل التايلاندي المحاصر في مخبأ مؤقت بعد مقتل اثنين من زملائه وجرح آخرين جراء صواريخ غزة.  

أكثر من 25 ألفا من العمال المزارعين من تايلاند يعملون في الأراضي الزراعية المستصلحة على حدود قطاع غزة. هؤلاء ليسوا يهودا من تايلاند بل عمالة وافدة يحصل الواحد منهم على خمسة أمثال ما يتقاضاه في وطنه الأم.

يكشف هذا الخبر عن طريقة جديدة في طبيعة المهاجرين إلى إسرائيل الذين ليسوا بالضرورة يهودا وليسوا بالضرورة مستوطنين بل عمالة مؤقتة لاستصلاح الأرض وزراعتها. 

إذا بحثت في أرشيف الأخبار الآسيوية عن أحدث اتفاقات إسرائيل وتايلاند ستجد اتفاقا أبرمته الدولتان بقدوم عمال تايلانديين بشكل ثابت بنحو 5 آلاف عامل كل سنة علاوة على ما هو هناك بالفعل من نحو 25 ألفا وذلك لضمان نجاح المشروعات الزراعية في الأراضي التي طردت إسرائيل منها أصحابها من الفلسطينيين.

الجديد هنا هو أن إسرائيل تخلق نطاقا عازلا بينها وبين أهل غزة بحاجز بشري من العمال الوافدين الذين يتلقون أكبر التهديدات الصاروخية لقربهم من موقع غزة.

ما إن قرأت الخبر تذكرت جذور العنصرية الأوروبية التي عبر عنها بكل جرأة فيلم "القلب الشجاع" للمخرج والممثل الشهير ميل جبسون.

في ذلك الفيلم نتذكر مشهدا تشن فيه قوات انجلترا حربا استعمارية على إقليم اسكتلندا الذي يريد الحرية والاستقلال ويرفض الخضوع للإنجليز، وحين تبدأ المعركة يسأل القادة العسكريون ملكهم الإنجليزي "أي فصيل عسكري نقدم ليستهل الحرب ويتلقى أعنف ضربات الاستكتلندين" وبدلا من أن يقول الملك "قدموا خير جنود انجلترا" يأمرهم بشكل استعلائي عنصري قائلا "قدموا الأيرلنديين !" 

الحاجز البشري من عمال تايلاند يترقب وقف إطلاق النار في غزة الذي بدأ قبل نصف ساعة (الثانية صباحا).

في تقييم ما حدث في الأسبوعين الماضيين لابد من الإقرار أن النتائج خالفت توقعات حتى كبار المحللين.

البعض لا يريد تصديق أن غزة انتصرت وأن الفلسطينيين صاروا أقوى مما سبق وأن إسرائيل لقيت هزيمة على صعد مختلفة.

البعض أيضا يرى أن إسرائيل ستستفيد من الدرس وتصحح الأخطاء وترتب في المستقبل أسلحة هجوم أقوى على الفلسطينيين بشكل أكبر ضراوة انتقاما مما أصابهم.

لكن إن أردت تلخيص الأمر في جملة واحدة فلعلك تقول إن "خط الزمن يشير إلى تقهقر إسرائيلي وانكماشها يوما بعد يوم، وما المشهد الأخير إلا توكيد لهذا الانحسار الإسرائيلي المستمر منذ 50 سنة مضت:

- لفد انسحبت إسرائيل مرغمة من سيناء بداية من 1973 وكان يفترض أن تنسحب من الجولان لولا سوء التنسيق بين السادات والأسد. 

- انسحبت إسرائيل مرغمة من جنوب لبنان في 2006، ولم تستطع أن تحتفظ بجنوب لبنان وهي التي كانت تحتل العاصمة اللبنانية بيروت وترتع فيها بكل جبروت في 1982.

- انسحبت من غزة  في 2005 وفككت 25 مستوطنة كان يسكنها عشرات الآلاف من المستوطنين الذين عاشوا في رعب من هجوم المقاومة في غزة.

- بداية من عام 2000 أقامت جدارا عازلا يفصلها عن سكان الضفة الغربية في استنساخ لفكرة "الجيتو" التي تحبس فيه نفسها على مقياس واسع. 

- ها هي تخسر خسائر كبيرة في آخر اشتباك مع غزة  في مايو 2021 وتصطدم بقدرات صاروخية مدهشة غير متوقعة.


من غير المنطقي أن نقول إن كل أشكال التراجع والتقهر هذه تمثل استعدادا لهجمة مرتدة، بل هي فعلا انحسار عن الاحتلال الجغرافي بمعناه التقليدي.


ولكي نكون منصفين في التحليل لابد أن نقول إن أشكال الاحتلال القديم قد ولى زمنها والعالم يعيش في مرحلة "ما بعد الاستعمار" التي يتم فيها "السيطرة من دون احتلال"، وتحقيق مكاسب اقتصادية "من دون فرض قوات على الأرض"، والأهم تحقيق الاستعمار أهدافه من خلال "ابتزاز دول الجوار من غير مدرعات ولا جنود ولا خنادق".


شئنا أم أبينا فإننا شهود عيان على مرحلة جديدة في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وأراضينا العربية، مرحلة تستلزم تطوير أنفسنا وقدراتنا لفهم طبيعة "ما بعد الاستعمار".

ولعل الخطة الجهنمية التي تم بموجبها تدمير دول العالم العربي المهددة لإسرائيل بحروب أهلية وإقليمية (العراق-سوريا- لبنان-اليمن- ليبيا) والتهديد بتعطيش مصر من خلال محابس مياه نهر النيل في إثيوبيا هي كلها شواهد على انحسار إسرائيل من الداخل !

إسرائيل ليس لديها قدرات لاستعمار أراض عربية جديدة وفق نظرية الاستعمار القديم وكل محاولاتها الآن مع القوى الغربية الاستعمارية القديمة أن تشرذم العالم العربي المحيط بها حتى يتفسخ وينهار فلا يقدر على الاقتراب منها ..لأنها ببساطة أضعف من أي وقت مضى. 

لا توجد وصفة سحرية جاهزة لوقف مزيد من الانهيار، الحلول المطلوبة كثيرة وأهمها الديموقراطية والمشاركة في السلطة وعدم التمييز بين طوائف الدولة السياسية والدينية والعرقية، فهي السبيل الوحيد – بجانب تعليم جاد لا شكلي ولا تمثيلي - لتفويت الفرصة على تكتيكات عالم ما بعد الاستعمار التقليدي.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -